كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال اللّه تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)} نبه اللّه بهذه الآية اليهود الذين أنكروا ما تضمن كتابهم من مثل وجوب رجم الزاني والاقتصاص من القاتل المعتدي، ووبخهم على مخالفة الأحبار المتقدمين، والأنبياء المبعوثين إليهم.
والمراد (بالهدى) بيان الأحكام والتكاليف، والمراد (بالنور) بيان ما ينبغي أن يعتقد من توحيد اللّه وأمور النبوة والمعاد.
والنَّبِيُّونَ من بعثهم اللّه في بني إسرائيل من بعد موسى لإقامة التوراة، ومعنى إسلامهم انقيادهم لحكم التوراة، وعن قتادة: يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا محمدا عليه الصلاة والسلام، فقد حكم على من زنى من اليهود بالرجم، وكان هذا حكم التوراة، وذكر بلفظ الجمع تعظيما، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً} [النحل: 120].
وقال ابن الأنباري: هذا رد على اليهود والنصارى، وتقرير أنّ الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية ولا بالنصرانية كما زعموا، بل كانوا مسلمين للّه منقادين لتكاليفه.
ولِلَّذِينَ هادُوا أي تابوا من الكفر متصل ب {يحكم} يعني أن النبيين إنما يحكمون بالتوراة للذين هادوا، أي لأجلهم، وفيما بينهم، أو هو مؤخّر من تقديم، فيكون التقدير: فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا.
{وَالرَّبَّانِيُّونَ} العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس، وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم.
{وَالْأَحْبارُ} جمع حبر، بكسر الحاء أو فتحها، والمراد العلماء المتقنون الصالحون.
وقوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ} معناه بما استودعوا من علمه، وقد أخذ اللّه على العلماء حفظ كتابه على وجهين:
أحدهما: أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم.
والثاني: ألا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه. ويتعلق قوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} بالأحبار على معنى العلماء أو {يحكم}.
وقوله: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} خطاب لليهود الذين كانوا في عصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وقد أقدموا على تحريف التوراة خائفين أو طامعين، ولما كان الخوف أقوى تأثيرا من الطمع قدّم اللّه ذكره فقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} والمعنى: إياكم أن تحرفوا كتابي خوفا من الناس والملوك والأشراف، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم، وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف اللّه تعالى عنهم، فإنما يخشى العاقل عقاب ربّه وحده.
ثم أتبع أمر الخوف بأمر الطمع والرغبة فقال: {وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} أي كما نهيتكم عن تغيير أحكامي من أجل الرهبة أنهاكم عن التغيير للطمع في المال أو الجاه، فمتاع الدنيا قليل، والرشوة التي تأخذونها سحت، لا بقاء لها، ولا منفعة، فلا ينبغي أن تضيّعوا بها الدّين والثواب الدائم.
وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ} وعيد شديد، المقصود منه تهديد اليهود الذين أقدموا على تحريف حكم اللّه في الزاني المحصن والاقتصاص من القاتل المعتدي، ومعناه أنهم لما أنكروا حكم اللّه المنصوص عليه في التوراة، وقالوا: إنّه غير واجب، أصبحوا كافرين، لا يستحقون اسم الإيمان لا بموسى والتوراة، ولا بمحمد والقرآن.
هذا وقد احتج جماعة بهذه الآية على أنّ شرع من قبلنا لازم علينا إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخا، لأنّ اللّه تعالى يقول: فِيها هُدىً وَنُورٌ والمراد بيان أصول الشرع وفروعه، ولو كانت التوراة منسوخة غير معتبرة الحكم بالكلية لما كان فيها هدى ونور، ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط للزوم التكرار، على أن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم، فلابد أن تكون الأحكام الشرعية داخلة فيها، لأنا- وإن اختلفنا في أنّ غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا- غير مختلفين في أنّ سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلا فيها.
وأيد الخوارج أيضا بآخر هذه الآية قولهم: كلّ من عصى اللّه فهو كافر، فقالوا إنها نص في أنّ كل من حكم بغير ما أنزل اللّه فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل اللّه. ولم يوافقهم جمهور الأئمة، بل دفعوا شبهتهم بأن قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ} إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه وأقر بلسانه كونه حكم اللّه إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل اللّه تعالى، ولكنه تارك له، فلا تتناوله الآية.
قال اللّه تعالى: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} لما جعل اليهود ديّة النضيري أكثر من دية القرظي، ومنعوا أن يقتل به، مخالفين في هذا ما في التوراة، وما حكم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين سألوه، نزلت هذه الآية.
ومعنى {كتبنا} فرضنا. وقد أخذ أبو حنيفة من الآية أن يقتل المسلم بالذمي.
وقالت الشافعية: الآية خبر عن شرع من قبلنا، وشرعهم ليس شرعا لنا.
وقرأ البعض {النفس} وجميع ما عطف عليه منصوبا، ونصب فريق الكلّ ما عدا الجروح فقد رفعه على القطع، ورفع آخرون ما سوى {النفس} على جعل ذلك ابتداء الكلام.
وتدلّ الآية على جريان القصاص في جميع ما ذكر فيها، ويرى العلماء أنّ المراد بقوله: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ استيفاء ما يماثل فعل الجاني منه، فلا يجوز التعدي، وعليه فتؤخذ العين اليمنى باليمنى عند وجودها، ولا تؤخذ اليسرى باليمنى وإن رضي المقتص منه. وقالوا: إنما تؤخذ العين بالعين إذا فقأها الجاني متعمّدا، فإن أصابها خطأ ففيها نصف الدية، فإن أصاب العينين معا خطأ ففيهما الدية كاملة، ورأى البعض أن في عين الأعور الدية كلّها، لأنّ منفعته بها كمنفعة ذي العينين أو قريبة منها.
وإذا فقأ الأعور عين الصحيح فعليه القصاص عند أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية كاملة دية عين الأعور، وقال أحمد بن حنبل:
لا قود عليه، وعليه الدية كاملة.
واختار ابن العربي الأول، لأنّ اللّه تعالى قال: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ والأخذ بعموم القرآن أولى، فإنّه أسلم عند اللّه، والقصاص بين صحيح العين والأعور كهيئته بين سائر الناس، ومتمسّك مالك أنّ الأدلة لما تعارضت خيّر المجني عليه. وحجة ابن حنبل أنّ في القصاص من الأعور أخذ جميع البصر ببعضه، وذلك ليس بمساواة.
والقصاص من الأنف إذا كانت الجناية عمدا كالقصاص من سائر الأعضاء، وكذلك يقتص من صالم الأذن وقالع السن.
وقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ} معناه أنها ذات مقاصة، وهو تعميم للحكم بعد ذكر بعض التفاصيل، والمراد منه: كل ما تمكن المساواة فيه من الأطراف كالقدمين واليدين، ومن الجراحات المضبوطة كالموضحة- مثلا- وهي التي توضح العظم، أي تكشفه. أما الذي لا يمكن القصاص فيه كرض في لحم، أو كسر في عظم ففيه حكومة.
وفي قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} الضمير في {به} يعود إلى القصاص وقوله: فَهُوَ راجع إلى التصدق الدال عليه الفعل، والضمير في (له) يحتمل أن يعود إلى العافي المتصدق.
روى عبادة بن الصامت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من تصدق من جسده يشيء كفّر اللّه تعالى عنه مثل ما تصدّق».
ويحتمل رجوعه إلى الجاني المعفوّ عنه، أي لا يؤاخذه اللّه تعالى بعد ذلك العفو، وأما المتصدق فأجره على اللّه تعالى.
ثم ذيل اللّه تعالى هذه الأحكام بما يوجب العمل بها، وهو قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي ومن لم يحكم بما أنزل اللّه من الأحكام والشرائع فقد تعدّى حدود اللّه، ووضع الشيء في غير موضعه. قال الرازي: وفيه سؤال، وهو أنه تعالى قال أولا: فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وثانيا هُمُ الظَّالِمُونَ والكفر أعظم من الظلم، فلما ذكر أعظم التهديدات أولا فأي فائدة في ذكر الأخف بعده.
وجوابه: أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى، وجحود لها، فهو كفر، ومن حيث إنه يقتضى إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس، ففي الآية الأولى ذكر اللّه ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق سبحانه، وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه. اهـ.
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)}.
قد أمر اللّه تعالى في أول السورة بإيفاء العقود، وقد قالوا في تفسيره: إنّ ذلك شامل للوقوف عند حدود اللّه، والتزام ما أحله اللّه، واجتناب ما حرمه، وعدم تعدّي تلك الحدود، وقد نص بعد ذلك على عدم إحلال ما حرم اللّه في قوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ إلخ. وهو نوع من إيفاء العقود، وفي هذه الآية يقول اللّه تعالى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وهو بيان للنوع المقابل لما ذكر أولا. أي كما نهيتكم عن إحلال ما حرّم اللّه أنهاكم عن تحريم ما أحل اللّه.
والطيبات اللذائذ التي تشتهيها النفوس، ولا تعافها الطباع، لا شتمالها على ما ينفع، وتجردها عما يضر.
وقد روي في سبب نزول هذه الآية أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم جلس إلى أصحابه يوما في بيت عثمان بن مظعون يعظهم، فوصف لهم يوم القيامة، وبالغ، وأشبع الكلام في الإنذار والتحذير، فعزموا على أن يرفضوا الدنيا، ويحرّموا على أنفسهم المطاعم الطيبة، والمشارب اللذيذة، وأن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، وأن لا يناموا في فراش النساء، بل لقد عزم بعضهم على أن يجبّ مذاكيره، ويلبسوا المسوح، ويسيحوا في الأرض فوصل خبرهم إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فسألهم فقالوا: ما أردنا إلا خيرا، فقال لهم: «إني لم أومر بذلك، إن لأنفسكم عليكم حقا، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
وليس في ذلك شيء من الحض على الاستزادة من أسباب الشهوات، بل ذلك نهي عن الرهبانية الموصلة إلى هدم الأجسام، وانحلال القوى، ومتى انهدمت الأجسام، وانحلت القوى، تسرب الخراب والاضمحلال إلى الأمة، قلا تقوى على العمل.
وأيضا فالناس مطالبون أن يعملوا عقولهم في مصلحة المجتمع، وأنّى لهم ذلك وقد انهدمت أجسامهم فضاعت عقولهم. والعقل السليم في الجسم السليم، ومع ذلك فاللّه لما نهانا عن تحريم الطيبات نهانا عن الاعتداء، وقال: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} فهو يأمرنا أن نكون وسطا، وأن نلتزم التوسط في الأمور.